فصل: تفسير الآيات رقم (140 - 141)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏103‏]‏

‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏103‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ لايَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏104‏]‏

‏{‏وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ‏(‏104‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم‏}‏ قد تقدم آنفاً فلا حاجة إلى إعادته وقد علمت مختارنا في ذلك فتذكر فما في العهد من قدم، ولشيخ الإسلام كلام في هذه الآية لا يخفى ما فيه على المتأمل فتأمل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏105‏]‏

‏{‏كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏105‏)‏‏}‏

‏{‏كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ المرسلين‏}‏ القوم كما في «المصباح» يذكر ويؤنث وكذلك كل اسم جمع لا واحد له من لفظه نحو رهط ونفر ولذا يصغر على قويمة، وقيل‏:‏ هو مذكر ولحقت فعله علامة التأنيث على إرادة الأمة والجماعة منه وتكذيبهم المرسلين باعتبار إجماع الكل على التوحيد وأصول الشرائع التي لا تختلف باختلاف الأزمنة والأعصار، وجوز أن يراد بالمرسلين نوح عليه السلام بجعل اللام للجنس فهو نظير قولك‏:‏ فلان يركب الدواب ويلبس البرود وماله إلا دابة واحدة وبرد واحد، و‏{‏إِذْ‏}‏ في قوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏106‏]‏

‏{‏إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ ‏(‏106‏)‏‏}‏

‏{‏إِذْ قَالَ لَهُمْ‏}‏ ظرف للتكذيب على أنه عبارة عن زمان مديد وقع فيه ما وقع من الجانبين إلى تمام الأمر كما أن تكذيبهم عبارة عما صدر منهم من حين ابتداء دعوته عليه السلام إلى انتهائها، وزعم بعضهم أن ‏{‏إِذْ‏}‏ للتعليل أي كذبت لأجل أن قال لهم‏:‏ ‏{‏أَخُوهُمْ نُوحٌ‏}‏ أي نسيبهم كما يقال‏:‏ يا أخا العرب ويا أخا تميم، وعلى ذلك قوله‏:‏

لا يسألون أخاهم حين يندبهم *** في النائبات على ما قال برهانا

والضمير لقوم نوح، وقيل‏:‏ هو للمرسلين والأخوة المجانسة وهو خلاف الظاهر ‏{‏أَلاَ تَتَّقُونَ‏}‏ الله عز وجل حيث تعبدون غيره‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏107‏]‏

‏{‏إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ‏(‏107‏)‏‏}‏

‏{‏إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ‏}‏ من الله تعالى أرسلني لمصلحتكم ‏{‏أَمِينٌ‏}‏ مشهور بالأمانة فيما بينكم، وقيل‏:‏ أمين على أداء رسالته جل شأنه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏108‏]‏

‏{‏فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ‏(‏108‏)‏‏}‏

‏{‏فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ‏}‏ فيما آمركم به من التوحيد والطاعة لله تعالى، وقدم الأمر بتقوى الله تعالى على الأمر بالطاعة لأن تقوى الله تعالى سبب لطاعته عليه السلام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏109‏]‏

‏{‏وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏109‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ‏}‏ أي على ما أنا متصد له من الدعاء والنصح ‏{‏مِنْ أَجْرٍ‏}‏ أي ما أطلب منكم على ذلك أجراً أصلاً لا مالاً ولا غيره ‏{‏إِنْ أَجْرِىَ‏}‏ فيما أتولاه ‏{‏إِلاَّ على رَبّ العالمين‏}‏ فهو سبحانه الذي يؤجرني في ذلك تفضلاً منه لا غيره، والفاء في قوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏110‏]‏

‏{‏فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ‏(‏110‏)‏‏}‏

‏{‏فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ‏}‏ لترتيب ما بعدها على ما قبلها من تنزهه عليه السلام من الطمع كما أن نظيرتها السابقة لترتيب ما بعدها على كونه رسولاً من الله تعالى بما فيه نفع الدارين مع أمانته، والتكرير للتأكيد والتنبيه على أن كلاً منهما مستقل في إيجاب التقوى والطاعة فكيف إذا اجتمعا، وقرىء ‏{‏إِنْ أَجْرِىَ‏}‏ بسكون الياء وهو والفتح لغتان مشهورتان في مثل ذلك اختلف النحاة في أيتهما الأصل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏111‏]‏

‏{‏قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ ‏(‏111‏)‏‏}‏

‏{‏قَالُواْ أَنُؤْمِنُ لَكَ واتبعك الارذلون‏}‏ أي وقد اتبعك على أن الجملة في موضع الحال وقد لازمه فيها إذا كان فعلها ماضياً وكثير من الأجلة لا يوجب ذلك، وقرأ عبد الله‏.‏ وابن عباس‏.‏ والأعمش‏.‏ وأبو حيوة‏.‏ والضحاك‏.‏ وابن السميقع‏.‏ وسعيد بن أبي سعيد الأنصاري‏.‏ وطلحة‏.‏ ويعقوب‏.‏ ‏{‏وأتباعك‏}‏ جمع تابع كصاحب وأصحاب، وقيل‏:‏ جمع تبيع كشريف وأشراف، وقيل‏:‏ جمع تبع كبطل وأبطال، وهو مرفوع على الابتداء و‏{‏واتبعك الارذلون‏}‏ خبره، والجملة في موضع الحال أيضاً، وقيل‏:‏ معطوف على الضمير المستتر في ‏{‏نُؤْمِنُ‏}‏ وحسن ذلك للفصل بلك و‏{‏الارذلون‏}‏ صفته، ولا يخفى أنه ركيك معنى، وعن اليماني ‏{‏واتباعك‏}‏ بالجر عطفاً على الضمير في ‏{‏أَحْلَلْنَا لَكَ‏}‏ وهو قليل وقاسه الكوفيون و‏{‏الارذلون‏}‏ رفع بإضمارهم، وهو جمع الأرذل على الصحة والرذالة الخسة والدناءة، والظاهر أنهم إنما استرذلوا المؤمنين به عليه السلام لسوء أعمالهم يدل عليه قوله في الجواب‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏112‏]‏

‏{‏قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏112‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ وَمَا عِلْمِى بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏ أي ما وظيفتي إلا اعتبار الظواهر وبناء الأحكام عليها دون التجسس والتفتيش عن البواطن، وما استفهامية، وقال الحوفي‏.‏ والطبرسي‏:‏ نافية، وعليه يكون في الكلام حذف أي وما علمي بما كانوا يعملون ثابت‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏113‏]‏

‏{‏إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ ‏(‏113‏)‏‏}‏

‏{‏إِنْ حِسَابُهُمْ‏}‏ أي محا محاسبتهم على ما يعملون ‏{‏إِلاَّ على رَبّى‏}‏ فاعتبار البواطن من شؤون عز وجل وهو المطلع عليها ‏{‏لَوْ تَشْعُرُونَ‏}‏ أي بشيء من الأشياء أو لو كنتم من أهل الشعور لعلمتم ذلك لكنكم لستم كذلك فلذا قلتم ما قلتم، وأل على هذا الوجه للجنس، وقال جمع‏:‏ إن استرذالهم إياهم لقلة نصيبهم من الدنيا، وقيل‏:‏ لكونهم من أهل الصناعات الدنيئة، وقد كانوا كما روي عن عكرمة حاكة وأساكفة، وقيل‏:‏ لا تضاع نسبهم، ومنشأ ذلك على الجميع سخافة عقولهم وقصور أنظارهم لأن الفقر ليس من الرذالة في شيء‏.‏

قد يذرك المجد الفتى ورداؤه *** خلق وجيب قميصه مرقوع

وكذا خسة الصناعة لا تزري بالشرف الأخروي ولا تلحق التقي نقيصة عند الله عز وجل، وقد أنشد أبو العتاهية‏:‏

وليس على عبد تقي نقيصة *** إذا صحح التقوى وإن حاك أو حجم

ومثلها صفة النسب فقد قيل‏:‏

أبي الإسلام لا أب لي سواه *** إذا افتخروا بقيس أو تميم

وما ذكره الفقهاء في باب الكفاءة مبني على عرف العامة لانتظام أمر المعاش ونحوه على أنه روي عن الإمام مالك عدم اعتبار شيء من ذلك أصلاً وأن المسلمين كيفما كانوا أكفاء بعضهم لبعض، وأل على هذه الأقوال للعهد‏.‏

والجواب بما ذكر عما أشاروا إليه بقولهم ذلك من أن إيمانهم لم يكن عن نظر وبصيرة وإنما كان لحيظ نفساني كحصول شوكة بالاجتماع ينتظمون بها في سلك ذوي الشرف ويعدون بها في عدادهم، وحاصله وما وظيفتي إلا اعتبار الظواهر دون الشق عن القلوب والتفتيش عما في السرائر فما يضرني عدم إخلاصهم في إيمانهم كما تزعمون؛ وجوز أن يقال‏:‏ إنهم لما قالوا‏:‏ ‏{‏واتبعك الارذلون‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 111‏]‏ وعنوا الذين لا نصيب لهم من الدنيا أو الذين اتضعت أنسابهم أو كانوا من أهل الصنائع الدنيئة تغابى عليه السلام عن مرادهم وخيل لهم أنهم عنوا بالأرذلين من لا إخلاص له في العمل ولم يؤمن عن نظر وبصيرة فأجابهم بما ذكر كأنه ما عرف من الأرذلين إلا ذلك، ولو جعل هذا نوعاً من الأسلوب الحكيم لم يبعد عندي، وفيه من لطف الرد عليهم وتقبيح ما هم عليه ما لا يخفى، وزعم بعضهم أنهم عنوا بالأرذلين نساءه عليه السلام وبنيه وكناته وبنى بنيه واسترذالهم لعضة النسب لا يتصور في جميعهم حقيقة كما لا يخفى فلا بد عليه من اعتبار التغليب ونحوه، وقرأ الأعرج‏.‏ وأبو زرعة‏.‏ وعيسى بن عمر الهمداني ‏{‏يَشْعُرُونَ‏}‏ بياء الغيبة وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏114‏]‏

‏{‏وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏114‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا أَنَاْ بِطَارِدِ المؤمنين‏}‏ جواب عما أوهمه كلامهم من استدعاء طردهم وتعليق إيمانهم بذلك حيث جعلوا اتباعهم ماناً عنه، وقد نزلوا لذلك منزلة من يدعي أنه عليه السلام ممن يطرد المؤمنين وأنه ممن يشترك معه فيه فقدم المسند إليه وأولي حرف النفي لإفادة أن ذلك ليس شأنه بل شأن المخاطبين‏.‏

وجوز أن يكون التقديم للتقوى وهو أقل مؤنة كما لا يخفى، وقيل‏:‏ إنهم طلبوا منه عليه السلام طردهم فأجابهم بذلك كما طلب رؤساء قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم طرد من آمن به من الضعفاء فنزلت ‏{‏وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 52‏]‏ الآية، وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏115‏]‏

‏{‏إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ ‏(‏115‏)‏‏}‏

‏{‏إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ‏}‏ كالعلة له أي ما أنا إلا رسول مبعوث لإنذار المكلفين وزجرهم عما لا يرضيه سبحانه وتعالى سواء كانوا من الأشرفين أو الأرذلين فكيف يتسنى لي طرد من زعمتم أنهم أرذلون‏.‏

وحاصله أنا مقصور على إنذار المكلفين لا أتعداه إلى طرد الأرذلين منهم أو ما علي إلا إنذاركم بالبرهان الواضح وقد فعلته وما علي استرضاء بعضكم بطرد الآخرين، وحاصله أنا مقصور على إنذاركم لا أتعداه إلى استرضائكم‏.‏

وقيل‏:‏ إن مجموع الجملتين جواب وإن إيلاء الضمير حرف النفي يدل على أنهم زعموا أنه عليه السلام موصوف بصفتين، إحداهما‏:‏ اتباع أهوائهم بطرد المؤمنين لأجل أن يؤمنوا، وثانيتهما‏:‏ أنه نذير مبين فقصر الحكم على الثاني دون الأول ولا يخلو عن بحث‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏116‏]‏

‏{‏قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ ‏(‏116‏)‏‏}‏

‏{‏قَالُواْ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يالوط نُوحٌ‏}‏ عما أنت عليه ‏{‏لَتَكُونَنَّ مِنَ المرجومين‏}‏ أي المرميين بالحجارة كما روي عن قتادة، وهو توعد بالقتل كما روي عن الحسن، وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي أن المعنى من المشتومين على أن الرجم مستعار للشتم كالطعن، وفي إرشاد العقل السليم أنهم قاتلهم الله تعالى قالوا ذلك في أواخر الأمر، ومعنى قوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏117‏]‏

‏{‏قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ ‏(‏117‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ رَبّ إِنَّ قَوْمِى كَذَّبُونِ‏}‏ استمروا على تكذيبي وأصروا عليه بعد ما دعوتهم هذه الأزمنة المتطاولة ولم يزدهم دعائي إلا فراراً‏.‏ وهذا ليس بإخبار بالاستمرار على التكذيب لعلمه عليه السلام أن عالم الغيب والشهادة أعلم ولكنه أراد إظهار ما يدعو عليهم لأجله وهو تكذيب الحق لا تخويفهم له واستخفافهم به في قولهم‏:‏ ‏{‏لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يالوط نُوحٌ لَتَكُونَنَّ مِنَ المرجومين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 116‏]‏ تلطفاً في فتح باب الإجابة، وقيل‏:‏ لدفع توهم الخلق فيه المتجاوز أو الحدة، وقيل‏:‏ إنه خبر لم يقصد منه الإعلام أصلاً وإنما أورد لغرض التحزن والتفجع كما في قوله‏:‏

قومي هم قتلوا أميم أخي *** فلئن رميت يصيبني سهمي

ويبعد ذلك في الجملة تفريع الدعاء عليهم بقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏118‏]‏

‏{‏فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏118‏)‏‏}‏

‏{‏فافتح بَيْنِى وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً‏}‏ على ذلك أي أحكم بيننا بما يستحقه كل واحد منا من الفتاحة بمعنى الحكومة، و‏{‏فَتْحاً‏}‏ مصدر، وجوز أن يكون مفعولاً به على أنه بمعنى مفتوحاً وهذه حكاية إجمالية لدعائه عليه السلام المفصل في سورة نوح ‏{‏وَنَجّنِى وَمَن مَّعِى مِنَ المؤمنين‏}‏ أي من قصدهم أو شؤم أعمالهم، وفيه إشعار بحلول العذاب بهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏119‏]‏

‏{‏فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ‏(‏119‏)‏‏}‏

‏{‏فأنجيناه وَمَن مَّعَهُ‏}‏ على حسب دعائه عليه السلام ‏{‏فِى الفلك المشحون‏}‏ أي المملوء بهم وبما يحتاجون إليه حالاً كالطعام أو مالاً كالحيوان‏.‏

والملك يستعمل واحداً وجمعاً، وحيث أتى في القرآن الكريم فاصلة استعمل مفرداً أو غير فاصلة استعمل جمعاً كما في «البحر»‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏120‏]‏

‏{‏ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ ‏(‏120‏)‏‏}‏

‏{‏ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ‏}‏ أي بعد إنجائهم، و‏{‏ثُمَّ‏}‏ للتفاوت الرتبي، ولذا قال سبحانه بعد بعد ‏{‏الباقين‏}‏ أي من قومه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏121 - 122‏]‏

‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏121‏)‏ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ‏(‏122‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ لايَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم‏}‏ الكلام فيه نظير الكلام فيما تقدم، وكذا الكلام في قوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏123‏]‏

‏{‏كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏123‏)‏‏}‏

‏{‏كَذَّبَتْ عَادٌ المرسلين‏}‏ بيد أن تأنيث الفعل هنا باعتبار أن المراد بعاد القبيلة وهو اسم أبيهم الأقصى، وكثيراً ما يعبر عن القبيلة إذا كانت عظيمة بالأب وقد يعبر عنها ببني أو بآل مضافاً إليه فيقال‏:‏ بنو فلان أو آل فلان، وكذا الكلام في قوله سبحانه‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏124 - 127‏]‏

‏{‏إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ ‏(‏124‏)‏ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ‏(‏125‏)‏ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ‏(‏126‏)‏ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏127‏)‏‏}‏

‏{‏إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلاَ تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ وَمَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ على رَبّ العالمين‏}‏ وحكاية الأمر بالتقوى والإطاعة ونفي سؤال الأجر في القصص الخمس وتصديرها بذلك للتنبيه على أن مبني البعثة هو الدعاء إلى معرفة الحق والطاعة فيما يقرب المدعو إلى الثواب ويبعده من العقاب وأن الأنبياء عليهم السلام مجتمعون على ذلك وإن اختلفوا في بعض فروع الشرائع المختلفة باختلاف الأزمنة والأعصار وإنهم عليهم السلام منزهون عن المطامع الدنيوية بالكلية‏.‏

ولعله لم يسلك هذا المسلك في قصتي موسى‏.‏ وإبراهيم عليهما السلام تفنناً مع ذكر ما يشعر بذلك، وقيل‏:‏ إن ما ذكر ثمة أهم وكانت منازل عاد بين عمان‏.‏ وحضرموت وكانت أخصب البلاد وأعمرها فجعلها الله تعالى مفاوز ورمالاً، ويشير إلى عمارتها قوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏128‏]‏

‏{‏أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آَيَةً تَعْبَثُونَ ‏(‏128‏)‏‏}‏

‏{‏أَتَبْنُونَ بِكُلّ رِيعٍ‏}‏ أي طريق كما روي عن ابن عباس‏.‏ وقتادة‏.‏

وأخرج ابن جرير‏.‏ وجماعة عن مجاهد أن الريع الفج بين الجبلين‏.‏ وعن أبي صخر أنه الجبل والمكان المرتفع عن الأرض‏.‏ وعن عطاء أنه عين الماء‏.‏ والأكثرون على أنه المكان المرتفع وهو رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، ومنه ريع النبات وهو ارتفاعه بالزيادة والنماء‏.‏

وقرأ ابن أبي عبلة ‏{‏رِيعٍ‏}‏ بفتح الراء ‏{‏ءايَةً‏}‏ أي علماً كما روي عن الحبر رضي الله تعالى عنه، وقيل‏:‏ قصراً عالياً مشيداً كأنه علم وإليه ذهب النقاش‏.‏ وغيره واستظهره ابن المنير؛ ويمكن حمل ما روي عن الحبر عليه وحينئذٍ فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏تَعْبَثُونَ‏}‏ على معنى تعبثون ببنائها لما أنهم لم يكونوا محتاجين إليها وإنما بنوها للفخر بها‏.‏

والعبث ما لا فائدة فيه حقيقة أو حكماً، وقد ذم رفع البناء لغير غرض شرعي في شريعتنا أيضاً، وقيل‏:‏ إن عبثهم في ذلك من حيث أنهم بنوها ليهتدوا بها في أسفارهم والنجوم تغني عنها‏.‏ واعترض بأن الحاجة تدعو لذلك لغيم مطبق أو ما يجري مجراه‏.‏ وأجيب بأن الغيم نادر لا سيما في ديار العرب مع أنه لو احتيج إليها لم يحتج إلى أن تجعل في كل ريع فيكون بناؤها كذلك عبثاً‏.‏

وقال الفاضل اليمني‏:‏ إن أماكنها المرتفعة تغني عنها فهي عبث، وقيل‏:‏ كانوا يبنون ذلك ليشرفوا على المارة والسابلة فيسخروا منهم ويعبثوا بهم‏:‏ وروي ذلك عن الكلبي‏.‏ والضحاك، وعن مجاهد‏.‏ وابن جبير أن الآية برج الحمام كانوا يبنون البروج في كل ريع ليلعبوا بالحمام ويلهوا به، وقيل‏:‏ بيت العشار يبنونه بكل رأس طريق فيجلسون فيه ليعشروا مال من يمر بهم‏.‏ وله نظير في بلادنا اليوم، ولا مستعان إلا بالله العلي العظيم‏.‏

والجملة في موضع الحال وهي حال مقدرة على بعض الأقوال‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏129‏]‏

‏{‏وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ ‏(‏129‏)‏‏}‏

‏{‏وَتَتَّخِذُونَ‏}‏ أي تعملون ‏{‏مَصَانِعَ‏}‏ أي مآخذ للماء ومجاري تحت الأرض كما روي عن قتادة، وفي رواية أخرى عنه أنها برك الماء‏.‏ وعن مجاهد أنها القصور المشيدة، وقيل‏:‏ الحصون المحكمة‏.‏ وأنشدوا قول لبيد‏:‏

وتبقى جبال بعدنا ومصانع *** وليس بنص في المدعى ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ‏}‏ أي راجين أن تخلدوا في الدنيا أو عاملين عمل من يرجو الخلود فيها فلعل على بابها من الرجاء، وقيل‏:‏ هي للتعليل وفي قراءة عبد الله ‏{‏كَى تَخْلُدُونَ‏}‏‏.‏

وقال ابن زيد‏:‏ هي للاستفهام على سبيل التوبيخ والهزء بهم أي هل أنتم تخلدون، وكون لعل للاستفهام مذهب كوفي، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما‏:‏ المعنى كأنكم خالدون وقرىء بذلك كما روي عن قتادة، وفي حرف أبي ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ‏}‏ وظاهر ما ذكر أن لعل هنا للتشبيه، وحكى ذلك صريحاً الواقدي عن البغوي‏.‏

وفي البرهان هو معنى غريب لم يذكره النحاة‏.‏ ووقع في «صحيح البخاري» أن لعل في الآية للتشبيه انتهى‏.‏

وقرأ قتادة ‏{‏تَخْلُدُونَ‏}‏ مبنياً للمفعول مخففاف ويقال‏:‏ خلد الشيء وأخلده غيره، وقرأ أبي‏.‏ وعلقمة ‏{‏تَخْلُدُونَ‏}‏ مبنياً للمفعول مشدداً كما قال الشاعر‏:‏

وهل يعمن إلا سعيد مخلد *** قليل هموم ما يبيت بأوجال

تفسير الآية رقم ‏[‏130‏]‏

‏{‏وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ ‏(‏130‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذَا بَطَشْتُمْ‏}‏ أي أردتم البطش بسوط أو سيف ‏{‏بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ‏}‏ مسلطين غاشمين بلا رأفة ولا قصد تأديب ولا نظر في العاقبة‏.‏ وأول الشرط بما ذكر ليصح التسبب وتقييد الجزاء بالحال لا يصححه لأن المطلق ليس سبباً للمقيد، وقيل‏:‏ لا يضر الاتحاد لقصد المبالغة، وقيل‏:‏ الجزائية باعتبار الإعلام والإخبار وهو كما ترى‏.‏ ونظير الآية قوله‏:‏

متى تبعثوها تبعثوها دميمة *** ودل توبيخه عليه السلام إياهم بما ذكر على استيلاء حب الدنيا والكبر على قلوبهم حتى أخرجهم ذلك عن حد العبودية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏131‏]‏

‏{‏فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ‏(‏131‏)‏‏}‏

‏{‏فاتقوا الله‏}‏ واتركوا هذه الأفعال ‏{‏وَأَطِيعُونِ‏}‏ فيما أدعوكم إليه فإنه أنفع لكم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏132‏]‏

‏{‏وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ ‏(‏132‏)‏‏}‏

‏{‏واتقوا الذى أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ‏}‏ أي بالذي تعرفونه من النعم فما موصولة والعائد محذوف والعلم بمعنى المعرفة، وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏133‏]‏

‏{‏أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ ‏(‏133‏)‏‏}‏

‏{‏أَمَدَّكُمْ بأنعام وَبَنِينَ‏}‏ منزلة منزلة بدل البعض كما ذكره غير واحد من أهل المعاني، ووجهه عندهم أن المراد التنبيه على نعم الله تعالى والمقام يقتضي اعتناء بشأنه لكونه مطلوباً في نفسه أو ذريعة إلى غيره من الشكر بالتقوى، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أَمَدَّكُمْ بأنعام‏}‏ الخ أوفى بتأدية ذلك المراد لدلالته على النعم بالتفصيل من غير إحالة على علم المخاطبين المعاندين فوزانه وزان وجهه في أعجبني زيد وجهه لدخول الثاني في الأول لأن ‏{‏مَا تَعْلَمُونَ‏}‏ يشمل الأنعام وما بعدها من المعطوفات، ولا يخفى ما في التفصيل بعد الإجمال من المبالغة، وفي «البحر» أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بأنعام‏}‏ على مذهب بعض النحويين بدل من قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏بِمَا تَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 132‏]‏ وأعيد العامل كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏اتبعوا المرسلين اتبعوا مَن لاَّ يَسْئَلُكُمْ أَجْراً‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 20، 21‏]‏ والأكثرون لا يجعلون مثل هذا إبدالاً وإنما هو عندهم من تكرار الجمل وإن كان المعنى واحداً ويسمى التتبيع، وإنما يجوز أن يعاد العامل عندهم إذا كان حرف جر دون ما يتعلق به نحو مررت بزيد بأخيك انتهى‏.‏

ونقل نحوه عن السفاقسي، وقال أبو حيان‏:‏ الجملة مفسرة لما قبلها ولا موضع لها، وبدأ بذكر الأنعام لأنها تحصل بها الرياسة والقوة على العدو والغنى الذي لا تكمل اللذة بالبنين وغيرهم في الأغلب إلا به وهي أحب الأموال إلى العرب ثم بالبنين لأنهم معينوهم على الحفظ والقيام عليها ومن ذلك يعم وجه قرنهما، ووجه قرن الجنات والعيون في قوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏134‏]‏

‏{‏وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ‏(‏134‏)‏‏}‏

‏{‏وجنات وَعُيُونٍ‏}‏ ظاهر وكذا وجه قرنهما مع الأنعام، وقوله سبحانه‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏135‏]‏

‏{‏إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ‏(‏135‏)‏‏}‏

‏{‏إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ‏}‏ الخ في موضع التعليل أي إني أخاف عليكم إن لم تتقوا وتقوموا بشكر هذه النعم‏:‏ ‏{‏عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ‏}‏ في الدنيا والآخرة فإن كفران النعمة مستتبع للعذاب كما أن شكرها مستلزم لزيادتها قال تعالى‏:‏ ‏{‏لَئِن شَكَرْتُمْ لازِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 7‏]‏ وعلل بما ذكر دون استلزام التقوى للزيادة لأن زوال النعمة يحزن فوق ما تسر زيادتها ودرء المضار مقدم على جلب المنافع‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏136‏]‏

‏{‏قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ ‏(‏136‏)‏‏}‏

‏{‏قَالُواْ سَوَاء عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مّنَ الواعظين‏}‏ فإنا لا نرعوي عما نحن عليه قالوا ذلك على سبيل الاستخفاف وعدم المبالاة بما خوفهم به عليه السلام، وعدلوا عن أم لم تعظ الذي يقتضيه الظاهر للمبالغة في بيان قلة اعتدادهم بوعظه عليه السلام لما في كلامهم على ما في «النظم الجليل» من استواء وعظه والعدم الصرف البليغ وهو عدم كونه من عداد الواعظين وجنسهم، وقيل‏:‏ في وجه المبالغة إفادة كان الاستمرار و‏{‏الواعظين‏}‏ الكمال واعتبارهما بقرينة المقام بعد النفي أي سواء علينا أوعظت أم استمر انتفاء كونك من زمرة من يعظ انتفاء كاملاً بحيث لا يرجى منك نقيضه، وقال في «البحر»‏:‏ إن المقابلة بما ذكر لأجل الفاصلة كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سَوَاء عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صامتون‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 193‏]‏ وكثيراً ما يحسن مع الفواصل ما لا يحسن دونه وليس بشيء كما لا يخفى‏.‏

وروي عن أبي عمرو‏.‏ والكسائي ادغام الظاء في التاء في ‏{‏وعظت‏}‏ وبالإدغام قرأ ابن محيصن‏.‏ والأعمش إلا أن الأعمش زاد ضمير المفعول فقرأ ‏{‏أوعظتنا‏}‏ وينبغي أن يكون إخفاء لأن الظاء مجهورة مطبقة والتاء مهموسة منفتحة فالظاء أقوى منها والإدغام إنما يحسن في المتماثلين أو في المتقاربين إذا كان الأول أنقص من الثاني‏.‏

وأما إدغام الأقوى في الأضعف فلا يحسن، وإذا جاء شيء من ذلك في القرآن بنقل الثقات وجب قبوله وإن كان غيره أفصح وأقيس‏.‏ وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏137‏]‏

‏{‏إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏137‏)‏‏}‏

‏{‏الواعظين إِنْ هذا إِلاَّ خُلُقُ الاولين‏}‏ تعليل لما أدعوه من المساواة أي ما هذا الذي جئتنا به الإعادة الأولين يلفقون مثله ويدعون إليه أو ما هذا الذي نحن عليه من الحياة والموت إلا عادة قديمة لم يزل الناس عليها أو ما هذا الذي نحن عليه من الدين إلا عادة الأولين الذين تقدمونا من الآباء وغيرهم ونحن بهم مقتدون، وقرأ أبو قلابة‏.‏ والأصمعي عن نافع ‏{‏خُلِقَ‏}‏ بضم الخاء وسكون اللام، والمعنى عليه كما تقدم‏.‏

وقرأ عبد الله‏.‏ وعلقمة‏.‏ والحسن‏.‏ وأبو جعفر‏.‏ وأبو عمرو‏.‏ وابن كثير‏.‏ والكسائي ‏{‏خُلِقَ‏}‏ بفتح الخاء وسكون اللام أي ما هذا إلا اختلاق الأولين وكذبهم، ويؤيد هذا المعنى ما روى علقمة عن عبد الله أنه قرأ ‏{‏إِلاَّ اختلاق الاولين‏}‏ ويكون هذا كقول سائر الكفرة ‏{‏أساطير الاولين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 25‏]‏ أو ما خلقنا هذا إلا خلق الأولين نحيي كما حيوا ونموت كما ماتوا، ومرادهم إنكار البعث والحساب المفهوم من تهديدهم بالعذاب، ولعل قولهم‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏138‏]‏

‏{‏وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ‏(‏138‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ‏}‏ أي على ما نحن عليه من الأعمال أصرح في ذلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏139‏]‏

‏{‏فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏139‏)‏‏}‏

‏{‏فَكَذَّبُوهُ‏}‏ أي أصروا على تكذيبه عليه السلام ‏{‏فأهلكناهم‏}‏ بسببه بريح صرصر‏.‏

‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ لايَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏140 - 141‏]‏

‏{‏وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ‏(‏140‏)‏ كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏141‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم كَذَّبَتْ ثَمُودُ المرسلين‏}‏ هو اسم عجمي عند بعض والأكثرون على أنه عربي وترك صرفه لأنه اسم قبيلة، وهو فعول من الثمد وهو الماء القليل الذي لا مادة له ومنه قيل فلان مثمود ثمدته النساء أي قطعن مادة مائة لكثرة غشيانه لهن ومثمود إذا كثر عليه السؤال حتى نفد مادة ماله أو ما يبقى في الجلد أو ما يظهر في الشتاء ويذهب في الصيف‏.‏ وفي «القاموس» ثمود قبيلة ويصرف وتضم الثاء وقرىء به أيضاً‏.‏ وفي سبائك الذهب أنه في الأصل اسم لأبي القبيلة ثم نقل وجعل اسماً لها، ووجه تأنيث الفعل هنا نظير ما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كَذَّبَتْ عَادٌ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 123‏]‏ وكذا الكلام في قوله سبحانه‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏142 - 145‏]‏

‏{‏إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ ‏(‏142‏)‏ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ‏(‏143‏)‏ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ‏(‏144‏)‏ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏145‏)‏‏}‏

‏{‏إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالح أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ وَمَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ على رَبّ العالمين‏}‏ كالكلام فيما تقدم وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏146‏]‏

‏{‏أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آَمِنِينَ ‏(‏146‏)‏‏}‏

‏{‏أَتُتْرَكُونَ فِى مَا هاهنا ءامِنِينَ‏}‏ إنكار لأن يتكروا فيما هم فيه من النعمة آمنين عن عذاب يوم عظيم فالاستفهام مثله في قوله تعالى السابق‏:‏ ‏{‏أَتَبْنُونَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 128‏]‏ وقوله تعالى اللاحق‏:‏ ‏{‏أَتَأْتُونَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 165‏]‏ وكأن القوم اعتقدوا ذلك فأنكره عليه السلام عليهم، وجوز أن يكون الاستفهام للتقرير تذكيراً للنعمة في تخليته تعالى إياهم وأسباب نفعهم آمنين من العدو ونحوه واستدعاء لشكر ذلك بالإيمان‏.‏

وفي «الكشف» أن هذا أوفق في هذا المقام، وما موصولة و‏{‏هاهنا‏}‏ إشارة إلى المكان الحاضر القريب أي أتتركون في الذي استقر في مكانكم هذا من النعمة، وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏147 - 148‏]‏

‏{‏فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ‏(‏147‏)‏ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ ‏(‏148‏)‏‏}‏

‏{‏فِي جنات وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ‏}‏ بدل من ما ههنا بإعادة الجار كما قال أبو البقاء‏.‏ وغيره، وفي الكلام إجمال وتفصيل نحو ما تقدم في قصة عاد‏.‏

وجوز أن يكون ظرفاً لآمنين الواقع حالاً وليس بذاك، والهضيم الداخل بعضه في بعض كأنه هضم أي شدخ‏.‏ وسأل عنه نافع بن الأزرق ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فقال له‏:‏ المنضم بعضه إلى بعض فقال‏:‏ وهل تعرف العرب ذلك، قال‏:‏ نعم أما ما سمعت قول امرىء القيس‏:‏

دار لبيضاء العوارض طفلة *** مهضومة الكشحين ريا المعصم

وقال الزهري‏:‏ هو اللطيف أول ما يخرج، وقال الزجاج‏:‏ هو الذي رطبه بغير نوى وروي عن الحسن‏.‏

وقيل‏:‏ هو المتدلى لكثرة ثمره، وقيل‏:‏ هو النضيج من الرطب وروي عن عكرمة، وقيل‏:‏ الرطب المذنب وروي عن يزيد بن أبي زياد، فوصف الطلع بالهضيم إما حقيقة أو مجاز وهو حقيقة وصف لثمره، وجعل بعضهم على بعض الأقوال الطلع مجازاً عن الثمر لأوله إليه، والنخل اسم جنس جمعي يذكر كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 20‏]‏ ويؤنث كما هنا، وليس ذلك لأن المراد به الاناث فإنه معلوم بقرينة المقام ولو ذكر الضمير‏.‏

وإفراده بالذكر مع دخوله في الجنات لفضله على سائر أشجارها أو لأن المراد بها غيره من الأشجار‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏149‏]‏

‏{‏وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ ‏(‏149‏)‏‏}‏

‏{‏وَتَنْحِتُونَ مِنَ الجبال بُيُوتاً فارهين‏}‏ أي أشرين بطرين كما روي عن ابن عباس‏.‏ ومحمد بن العلاء، وجاء في رواية أخرى عن ابن عباس تفسيره بنشطين مهتمين، وقال أبو صالح‏:‏ أي حاذقين وبذلك فسره الراغب‏.‏

وقال ابن زيد‏:‏ أي أقوياء، وأنت تعلم أن هذه الجملة داخلة في حيز الاستفهام السابق والأوفق به على القول الأول القول الأول وعلى القول الثاني كل من الأقوال الباقية وكلها سواء في ذلك إلا أنه يفهم من كلام بعضهم أن الفراهة حقيقة في النشاط مجاز في غيره وعليه يترجح تفسيره بنشطين إذا أريد التذكير‏.‏

وقرأ أبو حيوة‏.‏ وعيسى‏.‏ والحسن ‏{‏تَنْحِتُونَ‏}‏ بفتح الحاء‏.‏ وقرىء ‏{‏تنحاتون‏}‏ بألف بعد الحاء إشباعاً، وعن عبد الرحمن بن محمد عن أبيه أنه قرأ ‏{‏وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ‏}‏ بالياء آخر الحروف وكسر الحاء، وعن أبي حيوة‏.‏ والحسن أيضاً أنهما قرآ بالياء التحتية وفتح الحاء‏.‏ وقرأ عبد الله‏.‏ وابن عباس‏.‏ وزيد بن علي‏.‏ والكوفيون‏.‏ وابن عامر ‏{‏فارهين‏}‏ بالف بعد الفاء، وقراءة الجمهور أبلغ لما ذكروا في حاذر وحذر‏.‏ وقرأ مجاهد ‏{‏متفرهين‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏150 - 151‏]‏

‏{‏فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ‏(‏150‏)‏ وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ ‏(‏151‏)‏‏}‏

‏{‏رَّبّكُمْ فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ وَلاَ تُطِيعُواْ أَمْرَ المسرفين‏}‏ كأنه عني بالخطاب جمهور قومه وبالمسرفين كبراءهم وأعلامهم في الكفر والاضلال وكانوا تسعة رهط‏.‏ ونسبة الاطاعة إلى الأمر مجاز وهي للآمر حقيقة وفي ذلك من المبالغة ما لا يخفى وكونه لا يناسب المقام فيه بحث‏.‏ ويجوز أن تكون الإطاعة مستعارة للامتثال لما بينهما من الشبه في الافضاء إلى فعل ما أمر به أو مجازاً مرسلاً عنه للزومه له‏.‏ ويحتمل أن يكون هناك استعارة مكنية وتخييلية، وجوز عليه أن يكون الأمر واحد الأمور وفيه من البعد ما فيه والإسراف تجاوز الحد في كل فعل يفعله الإنسان وإن كان ذلك في الإنفاق أشهر، والمراد به هنا زيادة الفساد وقد أوضح ذلك على ما قيل بقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏152‏]‏

‏{‏الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ ‏(‏152‏)‏‏}‏

‏{‏الذين يُفْسِدُونَ فِى الارض‏}‏ ولعل المراد ذمهم بالضلال في أنفسهم بالكفر والمعاصي وإضلالهم غيرهم بالدعوة لذلك، وللإيماء إلى عدم اختصاص شؤم فعلهم بهم حثاً على امتثال النهي قيل ‏{‏فِى الارض‏}‏ والمراد بها أرض قمود، وقيل‏:‏ الأررض كلها ولما كان ‏{‏يُفْسِدُونَ‏}‏ لا ينافي إصلاحهم أحياناً أردف بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ يُصْلِحُونَ‏}‏ لبيان كمال إفسادهم وأنه لم يخالطه إطلاح أصلا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏153‏]‏

‏{‏قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ ‏(‏153‏)‏‏}‏

‏{‏قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مِنَ المسحرين‏}‏ أي الذين سحروا كثيراً حتى غلب على عقولهم، وقيل‏:‏ أي من ذوي السحر أي الرئة فهو كناية عن كونه من الأناسي فقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏154‏]‏

‏{‏مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآَيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ‏(‏154‏)‏‏}‏

‏{‏مَا أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا‏}‏ على هذا تأكيد له وعلى الأول هو مستأنف للتعليل أي أنت مسحور لأنك بشر مثلنا لا تميز لك علينا فدعواك إنما هي لخلل في عقلك ‏{‏مَا أَنتَ‏}‏ أي بعلامة على صحه دعواك ‏{‏إِن كُنتَ مِنَ الصادقين‏}‏ فيها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏155‏]‏

‏{‏قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ ‏(‏155‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ هذه نَاقَةٌ‏}‏ أي بعد ما أخرجها الله تعالى بدعائه‏.‏

روي أنهم اقترحوا عليه ناقة عشراء تخرج من صخرة عينوها ثم تلد سقبا فقعد عليه السلام يتذكر فقال له‏:‏ جبريل عليه السلام صل ركعتين وسل ربك ففعل فخرجت الناقة وبركت بين أيديهم ونتجت سقباً مثلها في العظم فعند ذلك قال لهم‏:‏ هذه ناقة ‏{‏لَّهَا شِرْبٌ‏}‏ أي نصيب مشروب من الماء كالسقى والقيت للنصيب من السقى والوقت وكان هذا الشرب من عين عندهم‏.‏

وفي مجمع البيان عن علي كرم الله تعالى وجهه أن تلك العين أول عين نبعت في الأرض وقد فجرها الله عز وجل لصالح عليه السلام ‏{‏وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ‏}‏ فاقتنعوا بشربكم ولا تزاحموها على شربها‏.‏

وقرأ ابن أبي عبلة ‏{‏شُرْبَ‏}‏ بضم الشين فيهما، واستدل بالآية على جواز قسمة ماء نحو الآبار على هذا الوجه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏156‏]‏

‏{‏وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ ‏(‏156‏)‏‏}‏

‏{‏وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوء‏}‏ كضرب وعقر ‏{‏فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ‏}‏ وصف اليوم بالعظم لعظم ما يحل فيه وهو أبلغ من عظم العذاب وهذا من المجاز في النسبة، وجعل ‏{‏عظِيمٌ‏}‏ صفة ‏{‏عَذَابِ‏}‏ والجر للمجاورة نحو هذا جحر ضب خرب ليس بشيء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏157‏]‏

‏{‏فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ ‏(‏157‏)‏‏}‏

‏{‏فَعَقَرُوهَا‏}‏ نسب العقر إليهم كلهم مع أن عاقرها واحد منهم وهو قدار بن سالف وكان نساجاً على ما ذكره غير واحد، وجاء في رواية أن مسطعاً ألجأها إلى مضيق في شعب فرماها بسهم فأصاب رجلها فسقطت ثم ضربها قدار لما روي أن عاقرها قال‏:‏ لا أعقرها حتى ترضوا أجمعين فكانوا يدخلون على المرأة في خدرها فيقول‏:‏ أترضين‏؟‏ فتقول‏:‏ نعم وكذلك الصبيان فرضوا جميعاً، وقيل‏:‏ لأن العقر كان بأمرهم ومعاونتهم جميعاً كما يفصح عنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَنَادَوْاْ صاحبهم فتعاطى فَعَقَرَ‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 29‏]‏ وفيه بحث ‏{‏فَأَصْبَحُواْ نادمين‏}‏ خوفاً من حلول العذاب كما قال جمع، وتعقب بأنه مردود بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالُواْ‏}‏ أي بعد ما عقروها‏:‏ ‏{‏وَقَالُواْ ياصاح ائتنا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ المرسلين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 77‏]‏، وأجيب بأن قوله بعد ما عقروها في حيز المنع إذ الواو لا تدل على الترتيب فيجوز أن يريدوا بما تعدنا من المعجزة أو الواو حالية أي والحال أنهم طلبوها من صالح ووعدوه الإيمان بها عند ظهورها مع أنه يجوز ندم بعض وقول بعض آخر ذلك بإسناد ما صدر من البعض إلى الكل لعدم نهيهم عنه أو نحو ذلك أو ندموا كلهم أو لا خوفاً ثم قست قلوبهم وزال خوفهم أو على العكس، وجوز أن يقال‏:‏ إنهم ندموا على عقرها ندم توبة لكنه كان عند معاينة العذاب وعند ذلك لا ينفع الندم، وقيل‏:‏ لم ينفعهم ذلك لأنهم لم يتلافوا ما فعلوا بالإيمان المطلوب منهم‏.‏

وقيل‏:‏ ندموا على ترك سقبها ولا يخفى بعده، ومثله ما قيل‏:‏ إنهم ندموا على عقرها لما فاتهم به من لبنها، فقد روي أنه إذا كان يومها أصدرتهم لنا ما شاؤوا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏158‏]‏

‏{‏فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏158‏)‏‏}‏

‏{‏فَأَخَذَهُمُ العذاب‏}‏ الموعود وكان صيحة خمدت لها أبدانهم وانشقت قلوبهم وماتوا عن آخرهم وصب عليهم حجارة خلال ذلك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏159 - 160‏]‏

‏{‏وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ‏(‏159‏)‏ كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏160‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ المرسلين إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ‏}‏ وكانوا من أصهاره عليه السلام‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏161 - 165‏]‏

‏{‏إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ ‏(‏161‏)‏ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ‏(‏162‏)‏ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ‏(‏163‏)‏ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏164‏)‏ أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ ‏(‏165‏)‏‏}‏

‏{‏أَلاَ تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ على رَبّ العالمين أَتَأْتُونَ الذكران مِنَ العالمين‏}‏ إنكار وتوبيخ‏.‏ والاتيان كناية عن الوطء‏.‏ و‏{‏الذكران‏}‏ جمع ذكر مقابل الأنثى‏.‏ والظاهر أن ‏{‏مّن العالمين‏}‏ متصل به أي أتأتون الذكران من أولاد بني آدم على قرط كثرتهم وتفاوت أجناسهم وغلبة إناثهم على ذكر انهم كأن الإناث قد أعوزتكم فالمراد بالعالمين الناس لأن المأتى الذكور منهم خاصة والقرينة إيقاع الفعل والجمع بالواو والنون من غير نظر إلى تغليب‏.‏ وأما خروج الملك والجن فمن الضرورة العقلية‏.‏ ويجوز أن يكون متصلاً بتأتون أي أتأتون من بين من عداكم من العالمين الذكر أن لا يشارككم غبه غيركم فالمراد بالعالمين كل من يتأتى منه الاتيان‏.‏ والعالم على هذا ما يعلم به الخالق سبحانه‏.‏ والجمع للغليب وخروج غيره لما مر‏.‏ ولا يضر كون الحمار‏.‏ والخنزير يأتيان الذكور في أمر الاختصاص للندرة أو لاسقاطهما عن حيز الاعتبار، وجوز أن يراد بالعالمين على الوجه الثاني الناس أيضاً، وإذا قيل بشمولهم لمن تقدم من العالمين تفيد الآية أنهم أول من سن هذه السنة السيئة كما يفصح عنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مّن العالمين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 80‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏166‏]‏

‏{‏وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ ‏(‏166‏)‏‏}‏

‏{‏وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ‏}‏ لأجل استمتاعكم، وكلمة ‏{‏مِنْ‏}‏ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مّنْ أزواجكم‏}‏ للبيان إن أريد بما جنس الإناث، ولعل في الكلام حينئذ مضافين محذوفين أي وتذرون إتيان فروج ما خلق لكم أو للتبعيض إن أريد بما العضو المباح من الأزواج‏.‏ ويؤيده قراءة ابن مسعود ‏{‏مَا إصلاح لَكُمْ رَبُّكُمْ مّنْ أزواجكم‏}‏ وحينئذ يكتفي بتقدير مضاف واحد أي وتذرون اتيان ما خلق‏.‏ ويكون في الكلام على ما قيل تعريض بأنهم كانوا يأتون نساءهم أيضاً في محاشهن ولم يصرح بإنكاره كما صرح بإنكار اتيان الذكر ان لأنه دونه في الإثم‏.‏

وهو على المشهور عند أهل السنة حرام بل كبيرة‏.‏ وقيل‏:‏ هو مباح، وقد تقدم الكلام في ذلك مبسوطاً عند الكلام في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 223‏]‏ وقيل‏:‏ ليس في الكلام مضاف محذوف أصلاً، والمراد ذمهم بترك ما خلق لهم وعدم الالتفات إليه بوجه من الوجوه فضلاً عن الاتيان، وأنت تعلم أن المعنى ظاهر على التقدير، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ‏}‏ اضراب انتقالي والعادي المتعدى في جميع المعاصي وهذا من جملتها أو متجاوزون عن حد الشهوة حيث زدتم على سائر الناس بل أكثر الحيوانات‏.‏

وقيل‏:‏ متجاوزون الحد في الظلم حيث ظلمتم باتيان ما لم يخلق للاتيان وترك اتيان ما خلق له، وفي البحر أن تصدير الجملة بضمير الخطاب تعظيماً لفعلهم وتنبيهاً على أنهم محتصون بذلك كأنه قيل‏:‏ بل أنتم قوم عادون لا غيركم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏167‏]‏

‏{‏قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ ‏(‏167‏)‏‏}‏

‏{‏قَالُواْ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يالوط لُوطٍ‏}‏ عن توبيخنا وتقبيح أمرنا أو عما أنت عليه من دعوى الرسالة ودعوتنا إلى الإيمان وإنكار ما أنكرته من أمرنا ‏{‏لَتَكُونَنَّ مِنَ المخرجين‏}‏ أي من المنفيين من قريتنا المعهودين، وكأنهم كانوا يخرجون من غضبوا عليه بسبب من الأسباب، وقيل‏:‏ بسبب إنكار تلك الفاحشة من بينهم على عنف وسوء حال، ولهذا هددوه عليه السلام بذلك، وعدلوا عن لنخرجنك الأخصر إلى ما ذكر؛ ولا يخفى ما في الكلام من التأكيد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏168‏]‏

‏{‏قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ ‏(‏168‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ إِنّى لِعَمَلِكُمْ مّنَ القالين‏}‏ أي من المبغضين غاية البغض، قال الراغب‏:‏ يقال قلاه ويقليه فمن جعله من الواو فهو من القلو أي الرمى من قولهم‏:‏ قلت الناقة براكبها قلوا وقلوت بالقلة إذا رميتها فكأن المقلو يقذفه القلب من بغضه فلا يقبله‏.‏ ومن جعله من الياء فهو من قليت السويق على المقلاة فكأن شدة البغض تقلى الفؤاد والكبد وتشويهما، فقول أبي حيان‏:‏ أن قلى بمعنى أبغض يائي، والذي بمعنى طبح وسوى واوى ناش من قلة الاطلاع، والعدول عن قالى إلى ما في النظم الجليل لأنه أبلغ فإنه إذا قيل‏:‏ قالي لم يفد أكثر من تلبسه بالفعل بخلاف قوله‏:‏ ‏{‏مّنَ القالين‏}‏ إذ يفيد أنه مع تلبسه من قوم عرفوا واشتهروا به فيكون راسخ القدم عريق العرف فيه، وقد صرح بذلك ابن جنى‏.‏ وغيره، واللام في «لعملكم» قيل للتبيين كما في سقيالك فهو متعلق بمحذوف أعني أعني، وقيل‏:‏ هي للتقوية ومتعلقها عند من يرى تعلق حرف التقوية محذوف أي إني من القالين لعملكم من القالين‏.‏ وقيل‏:‏ هي متعلقة بالقالين المذكور ويتوسع في الظروف ما لا يتوسع في غيرها فتقدم حيث لا يقدم غيرها، والمراد بعملهم إما ما أنكره عليه السلام عليهم من اتيان الذكرتن وترك ما خلق ربهم سبحانه لهم وإما ما يشمل ذلك وسائر ما نهاهم عنه وأمرهم بضده من الأعمال القلبية والقالبية، وقابل عليه السلام تهديدهم ذلك بما ذكر تنبيهاً على عدم الاكتراث به وأنه راغب في الخلاص من سوء جوارهم لشدة بغضه لعملهم ولذلك أعرض عن محاورتهم وتوجه إلى الله تعالى قائلاً‏:‏